أولا، لا فرق أبداً بين مقولة "من أصل فلسطيني" وجملة "أنا عنصري". ببساطة لأنها تقسم الناس أو الأفراد بناءاً على مكان ولادتهم أو سكناهم في تاريخ ما أو مكان ولادة أو سكنى أجدادهم في تاريخ ما. إن فكرة تقسيم الأفراد بناءاً على أصلهم فكرة غريبة عنا وعن ثقافتنا. إن اللبس في كلمتي عربي وعجمي وربطهما باللغة أولاً وثانيا بمكان السكن مثال واضح عن طريقتنا العربية القديمة في التعامل مع هكذا موضوع. لكن، وبما أننا نبدأ من الرد كي يرجع المقال نقياً، فلا بد من ذكر أفكار تتعلق بحترية ناهض. أولاً، لم العودة في نقاش مواطنة الفلسطينين من بعد ال ٨٨؟ لم اختيار هذا الموعد التاريخي تحديداً؟ يدرك المقال هذا أن قرار فك الارتباط يتخذ من قبل الحترية كخط فصل بين الأردنيين والفلسطينيين. لكن لماذا لا تتخذ مواعيد مثل ال ٦٧ أو ال ٤٨ كخط فاصل؟ هذه التواريخ تمثل مواعيد نزوح كبرى للفلسطينيين إلى الأردن. لكن الحترية تتخذ ال ٨٨ بالتحديد! لماذا لا تتخذ سنة ١٩٢١ كموعد للفصل؟لا تتخذ هذه التواريخ لأنها أصعب للتسويق وفقط. تسويق العنصرية على فئة قليلة يظل ببساطة§ أكثر سهولة من تسويق العنصرية على فئة أكبر. وبالتالي لماذا لا تمارس الحترية على العائلة المالكة ما تمارسه على غيرها؟ لأن الحترية في عمقها لا تكترث للهوية الأردنية كما تدعي، بل هي مجرد عنصرية ضد الآخر الذي عبر النهر بفعل كارثة إنسانية. ألا يتبع ذلك، وأليس من الواضح والممكن، وفي حال تعذر الحصول على أدلة تتعلق بأصول أشخاص، وفي حال وجود فحوصات جينية دقيقة، أن الحترية قد تذهب لفحص جينات المواطنين لتحديد مدى أردنيتهم؟ تماما كما في المانيا النازية؟
من غير الضروري توضيح جفاء التحليل العنصري للماركسية، لكن من المهم أيضاً، وللتخلص من الحاجة للرد، (كي يرجع المقال نقياً) التنويه إلى أن التحليل الماركسي يبدأ من الواقع باتجاه التجريد، وليس العكس كما "المفارقة أن المسئولين الأردنيين يمارسون اللعبة على الملعب الإخواني الليبرالي نفسه ويذهبون نحو الاستعانة بالتنظيمات الفلسطينية لضمان مشاركة المخيمات!" فبدلا من أن يفهم من الحدث أن التوطين ليس بالحسبان بالنسبة لفلسطينيي الأردن، وأن ارتباطهم السياسي ما زال فلسطينيا، يفهم حتر أن هذا يعني أن المسؤلين الأردنيين "يتخلون طوعا عن السيادة الوطنية ووحدة الشعب الأردني".
إستكمالا، يرى حتر أن حماس أعطت الشرعية لأوسلو بمشاركتها في انتخابات الاحتلال، لكن، ألا يعطي كل الطبل والزمر والغناء للوطن الأردني في مواجهة الفلسطيني اللاجئ شرعية ليسايكس بيكو؟ علما بأن قلة من الفلسطينيين شاركت في إيجاد أوسلو لكن لم يشارك أي أردني أو عربي في إيجاد سيكس بيكو.
عندما يقول الكاتب أن برنامج الحركة الوطنية الأردنية واضح ومحدد ومن ثم يتلوه علينا، أليس في ذلك إحتكار للوطنية؟ كيف استطاع حتر خط وتحديد برنامج الحركة الوطنية الأردنية؟ بناءً على ماذا؟ وألا يشبه ذلك منطق التكفيريين الذين يحتكرون مفاتيح الجنة؟
أيضاً، أليس من الأجدى مثلاً، إذا أردنا الإلتزام بأن الأطروحة الحترية تحتضن في داخلها (كما تدعي) خوفاً على فلسطين، أن يكون التوجه إلى دعم الفلسطينيين في الداخل بدلاً من زيادة التضييق عليهم؟ أليس من الأجدى أن يتمكن اللاجئ (بأي وقت وظرف) من التعلم في المدرسة الحكومية بدلاً من حرمانه؟ ألا يصاغ الاكتراث بالفلسطيني الأسود هكذا بدلا من مطاردته خارج الدولة والهوية و"الوطن"؟
عن النظام والدولة
من السهل الوقوع في لبس العلاقة بين الدولة والنظام. إذ يبدو أنهما متمايزان بسبب إمكانية سقوط النظام دون سقوط الدولة، والعكس أيضاً. الأولى تحدث مثلاً في الثورة، والثانية تحدث عندما تفشل الدولة أو تباع. لكن الفرق الحقيقي بين النظام والدولة أشد تعقيداً.
إن الحالة الإجتماعية والمؤسسية التي تمثلها الدولة معقدة جداً. هل يكفي العلم والأرض والبشر لتشكيل دولة؟ هل نستطيع إعتبار لبنان دولة؟ أو إعتبار الأردن دولة ناجحة؟
لربما يكون جوهر الدولة وأساسها هو فكرة إحتكار مؤسسة واحدة لحق إكراه الفرد، هذه هي الطريقة التي خطها أجداد الدول كطريقة مثلى لتسيير شؤون المجتمعات. أخذاً هذه الفكرة بعين الاعتبار، نستطيع وصف أو تعريف النظام على أنه مجموعة العلاقات الداخلية الحاكمة والمحتكرة لحق الإكراه كمؤسسة جانية للربح، إذ لا نظام برئ أو مسكين أو نظيف تماماً.
مثلاً، من المقبول (؟) أن تتغول الدولة على الفرد في كثير من الأمور، كالإكراه على دفع الضرائب، أو سلب الحرية (السجن) لأن الفرد تصرف أو تكلم بما لا يتوافق مع الدولة أو النظام بدون إعتداء حقيقي من قبل الفرد على المؤسسة. (تحدث بإسهاب ميشيل فوكو عن ذلك في تاريخ الجنساوية، الجزء الأول). فمثلاً، تستطيع الدولة أن تعاقب الفرد على توجهاته الجنسية. كل هذا ظاهرة حديثة نسبياً. لكننا في معظم الأحيان لا نسائلها. لكن المهم هنا أن الدولة هي الوحيدة المخولة بفعل ذلك. وهذا هو تماماً أساس بقائها. لذلك، وعلى سبيل المثال، نستطيع أن نعتبر أن النظام السوري ساقط لأنه لم يتمكن من الحفاظ على إحتكار الإكراه بيد الدولة. و بالتالي تم كسر الاحتكار بإتجاه الشراكة ثم بإتجاه إحتكار جديد (نظام جديد). ونستطيع من هنا القول أن الدولة السورية تمر بحالة فشل ذريع حالياً. في حالة الأردن، نستطيع أن نرى أن كسر الاحتكار بدأ منذ زمن كحالة الشركة التي تطلق النار على موظفيها المعتصمين، أو حروب الجامعات أو حتى عطاوي القتل التي تتم خارج المؤسسة كونها فاشلة في إدارة الأمور بطريقة يثق بها المجتمع.
من هنا، نستطيع أن نرى أن أزمة الهوية (الأردنية مثلاً) نتيجة وليست سبباً لفشل الدولة. من الغريب حقاً (أو بالأحرى من العنصري حتماً) أن تؤخذ أصول المواطنين في عين الإعتبار أثناء صياغة مفهوم الدولة أو الهوية المحلية. لأن الهوية التي لا تستطيع ديناميكياً أن تحتضن بدلاً من أن تقصي هي هوية ضعيفة، وكأن البعض يريد لها ذلك. قد يتمكن البشر من صياغة ما يودون أن يكون هويتهم أحياناَ، لكن يستحيل التنصل من التاريخ والواقع في هذه الصياغة. لذلك، فإن فهم أزمة الهوية كنتيجة لفشل الدولة أصح من فهمها كسبب لرفض الآخر.
إشكالية العنف والديمقراطية
وتبعا لما سبق، فإنه عندما يقوم مواطنون باستخدام العنف لحل مشاكلهم، فإن هذا، بوعي أو بدون، يشكل تحد للنظام الحاكم ويهدد وجود الدولة كاملاً، أو على الأقل معنى وجودها. تمكنت الدول والأنظمة من حل هذه الإشكالية عن طريق إضافة مكون الديمقراطية. فالديمقراطية تشكل وهم المشاركة بصنع القرار للفئات الشعبية كخدعة لإقناعها بأنها جزء من النظام، وانها من يسير دفة الدولة. وبالتالي فإن سقوط الأنظمة الديمقراطية من الداخل أصعب من نقيداتها (أو شقيقاتها) الديكتاتورية. لأن مفر الفرد من الاحتكار القائم على الإكراه يكون بالتحدي والكسر بدلاً من تغيير الأفراد القائمين عليه كما في الديمقراطيات.
عندما يرفض الفرد قواعد لعبة الوهم الديمقراطية، فإنه، ولكونه ضعيفاً في وجه المؤسسة القوية، يلجأ إلى مقاطعة الانتخابات. وهذا هو أبسط وأسهل أشكال مقاومة اللعبة. لذا، يبدو أنه من الخارج عن إطار المنطق إتهام أولئك الذين لا يصوتون، أو يرفضون المشاركة في الخدعة الديمقراطية باللاوطنية. إن الوعي بخدعة الديمقراطية ذكاء على أقل تقدير. أو في حال آخر، تعبير عن فقدان الثقة المسبق في النتيجة. لنفترض مثلاً أن اللعبة الديمقراطية قد تنتج تغييراً حقيقياً ينقذ الدولة من فشلها، ألن يصطف المواطنون أمام هيئات التسجيل ليسبغوا بصفة المواطنة؟
عن الوطنية وفكرة الوطن
الوطنية كذبة صيغت للدفاع عن مؤسسة الدولة. إذا أردنا الاستعانة بسوسور فإننا سنبدأ بمقارنة الكلمات المحيطة بكلمة وطن من حيث المعنى. (إذ أن الكلمة لا معنى لها وتتخذ معانيها من مجاوراتها، راجع سوسور, يتحدث عن ذلك أيضاً وبإسهاب ويليم لامبسون في محاضراته عن النظرية الأدبية في جامعة ييل، متوفرة على يوتيوب مجاناً المحاضرة السابعة والثامنة). الكلمات المحيطة والتي تتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى كلمات بلد ودولة وأرض. أحد الفروق الواضحة بين كلمة وطن وجاراتها هو القيمة المعنوية والعاطفية التي تحملها. وهذا مهم وفي صلب الموضوع، لأن الفرد يستطيع أن ينتمي لمكان ما، لكن ما حجم هذا المكان؟ هل من الممكن أن ينتمي فرد ما لكل الأردن؟ أو كل روسيا؟ عادةً ما نرتبط عاطفياً مع الأماكن التي نعيش فيها، الحي أو الضاحية أو المدينة التي نسكنها أو الأماكن التي عشنا فيها في طفولتنا وهكذا. لكن هل يمكن الانتماء للأرض الكامنة ما بين مجموعة خطوط على خريطة؟ ماذا عن المكان الذي يبعد ٢ كيلومتر بعد ذلك الخط؟ هل يمكن الانتماء لقطعة أرض بين هذه الخطوط بالرغم من عدم وجود القدرة على العيش فيها كاملة بشكل لحظي؟ لماذا يوجد هذا الشعور ومن يحمل رايته؟ عادةً ما يكون النظام هو من يسوق الشعور الوطني، ولسبب بسيط، لأن هذا الشعور مهم لإبقاء الدولة والنظام. من المهم للنظام غرس فكرتي الانتماء والوطن في مشاعر الناس لأنها تمثل حب للدولة بشكل مؤطر ومتنكر.
لكن السؤال الجوهري في الوطنية، ولأخذ الفكرة إلى حدودها القصوى. لنختر قرية أو مدينة أردنية ما، بشكل عشوائي، بحيث لا ندرك الآن ما هي (الفكرة إسمها "خلف حجاب اللا معرفة" من عمل جون رولز)، وبالتالي يمكن أن تكون مفضلة أو غير مفضلة بشكل شخصي لديك. هل يفضل الفرد الوطني المعيشة في هذه المدينة أو القرية التي لا يعلمها بعد (بالرغم من أنها على تراب الوطن) أم المعيشة في برلين أو باريس؟ (علماً أن كلاهما ممكن في هذه الحالة الإفتراضية) هذه هي الوطنية مأخوذة إلى حدودها القصوى والحقيقية. الأزمة تظهر إذا ما سألنا المواطنين من حولنا. أعتقد جازماً أن الأردن سيخلو من سكانه بإستثناء الطبقة المخملية. وبكل بساطة، مرد هذه النتيجة يساق إلى الفرق في مستوى المعيشة فقط. لذلك، فإن الرقص الماركسي على التحليل الطبقي لا يمكن أن يتهم أحداً باللا وطنية، بل سيقرأ الحالة كاملة بشكل مادي مجرد ودقيق. وعدا ذلك من ربط الوطنية ببطاقات الانتخاب، أو في حب الدولة بين خطوط على خريطة لا يعدو كونه لغواً يود النظام تعميمه. وهو لا يبعد سوى أشبار قليلة عن ربط الوطنية بحب القوات المسلحة أو الشرطة والدرك أو تقديس الأجهزة الأمنية.