من
ضمن منجزات اليسار الأخيرة، في خضم الخضم وميمعة الوجود، في بحر
المتناقضات والتطور الكمي والنوعي والحلزوني والظروف الموضوعية والذاتية،
ماذا نرى؟ نرى أشاوس اليسار يحملون عُبي عشائريتهم ويلقونها على ظهر الشبل
المحني، ذلك الشبل إبن الأسد السفاح المجرم الجزار، نرى الإبن غير الشرعي
للجبهة الشعبية مغلقاً فاه إذ أن تحالفه التاريخي مع اليمين الإسلامي أهم
وأنقى وأصح ماركسياً من الدفاع عن رفاقه في سجون الإستبداد والشمولية، نرى الأم الروحية من دكان الجبهة
الديمقراطية (فرع جبل الحسين) وهي تتلقى نصالاً بيضاً في محاولتها البائسة
للوصول إلى مجلس التزوير والإلتفاف والتكميم، نرى الحزب الشيوعي ذو الباع
الطويل في الصياغة والديباجة والتحليل منهمكاً في صياغة بيان جديد، يهاجم
هجوم الإخوان على يساريي الأسد في الأردن. أبناء الحراثين إنهمكوا في صياغة
فهم عرقي جديدٍ للأردن، بإستخدام العقيدة والسنة الماركسية، والباقي وما
لف لفيفه ليس بأفضل ولا بأحسن حالاً، فمنهم من يحرّم الكاكا بفتاوي، والآخر
يشد الرحال إلى مراكز التسوق، لعل هناك من يشتري رداءً صنع بإسرائيل، وكأن
الهواء يخلوا من صهيونية الموقف. بضع أناركيين يرتاحون بين الثورة والثورة،
وقد أنهكتهم ثمالة الرش على الجدران في اللويبدة، عاصمة العواصم ومركز
الكون. وهنالك طبعاً المستقلون، والمستقلون عن المستقلين، في القهاوي
والحانات يقبضون على جمر العمل الثوري آناً، ويمجون سجائر فرنسا الثورية آناً، لعل وعسى تهاب الأعداء رائحة العفن. يُلوّح نصف الرفاق لروسيا
اليوم، والباقي ينتظر التنين الصيني الصنع كي يرجع لهم إنتصاب ونشوة
اليسار، يحملون أمل مستقبل مشرق، تعم فيه الكرامة والسعادة والعدالة
الإجتماعية، تماماً كمصير أطفال الصين في مصانع الأحذية الأمريكية، أو
مومسات الإتحاد السوفييتي في نادي القلعة الثقافي. تفو على يسارٍ كهذا،
قِبلته أقل ثباتاً من قبلة الصوفيين، ومرجعيته قوانين العلوم الحديثة، أخاصمك آه
أسيبك لا، وبيني وبينك خطوة ونص. لكن يا أيها النفس اطمئني، إذ أن مجمع
اليسار التجاري في طريقه للتبوء، في جبل الحسين يتجمعون اليوم، كلهم، على
أن تتبعهم بإذن ماركس، باقي القافلة. كلهم سقوط في سقوط، عداك يا بعث عدي،
تهتف بلا حرج، يا صدام سير سير، احنا معك للتحرير، سريالية تأتينا عارية،
رحمة الله على فشلك يا دالي.
لا بد
لنا أن نستمر بالنظر إلى محاولات التدوين، سواء على شكل المدونة أو شفرات
المعرفة على ويكيبيديا، على أنها محاولات فاشلة تماماً في المعرفة. إن
محتوى المدونة أو المقال لن يتمكن من تجاوز حدود التوثيق والتدوين
والنميمة. إن من بين أقصى خيبات الأمل التي يمكن تخيلها، عدا خيبة أمل
الحياة، هي خيبة ذلك الذي يبحث في المدونة عن معرفة، مثله في ذلك مثل
الباحث عن القرآن في الحديث، أو المسيح في رسائل الرسل، أو ماركس في
الشعبية.
٥. الدولة، وما أدراك
ما الدولة، تصنع المعجزات الجسام، تصنع الإنتخابات بالتعيين والبطش، تحاسب
السارق وهي فساد، تأكل من قوت الجائعين وتتعثر بسمنة رجالها، تكن ما لا
تقول، وتقول ما لا تفعل، وإن فعلت فتفعل شحاً لرفع العتب، وإن رفعته فترفعه
فبمقدار. إن هددت فعلت وإن وعدت أخلفت، تمشي الهوينى بساق، وتهرول بالأخرى،
تتكىء على ظهور الناس، وتعلف قلة القلة، تذل كرام الناس إن خدش أحدهم
شعورها، دولة حديثة عصرية، الانسان فيها أغلى الممتلكات، يباع ويشترى
مراراً كثاراً قبل أن يدرك أنه مات. فلما الدولة فهمت أن الناس باتت تقفز
من على جسر الحداثة في عبدون، كي تهرب من سفاهة وتفاهة وضيق الموقف، درّبت
فرق البطش على مكافحة الإنتحار، إذ أن الميت يصعب عرضه في سوق النخاسة
العالمي، في سوق الشرف والوطنية، فبات الناس أشد إحترافاً في الموت،
فباغتتهم الدولة، ورفعت سعر إمتلاك القبر، إذ أن الأرض ليست للجميع، بل هي
هبة الله لعلية القوم، وإن أردت الموت، فعلى أبنائك الجوعى أن يدفعوا
مزيداً كي يدفنوك، كي يعوضوا الدولة عن خسارتها إن غادرتنا يا غالي. وبين
العصر والمغرب، إذ لا ضير من الإبداع، لم تجد الدولة بداً من جعل أولائك
الذين يرقدون في سيارات الإسعاف، متجهين إلى موت البشير، يدفعون ما لا
يملكون من مال، خوفاً على سمنة موازنة الفساد من موت المساكين. لكن الدولة في المقابل، تكترث لك يا إنسان، وإن اختطفت في السعودية، فهذه الدولة لن تتركك وحيداً.
من مطبات وحفر الوجود الكريهة،
التي تتجاوز الألف في عمان- الأردن وحدها،
والتي يخطها شكل هذه الأسطر،
إرتطام إصبع قدمك برجل طاولة في الظلام،
الجمعية الفلسفية الأردنية،
فقدان الأمل بفقدانه،
تعثر المزاج العام بسبب ذوبان الثلج بكافة أشكاله،
الثلج بكافة أشكاله،
منظر العساكر والمجرمين في المؤتمرات الصحفية،
شرطة السير بمناقلهم أو بدونها،
تزاوج الفقر والبرد،
براءة الأطفال،
العجوز المصاب بالأمل من شدة الموت،
مهزلة فجر يوم جديد،
لكن للوجود طرقاً بلا مطبات،
موجودة حقاً،
سلسة جداً،
تشبه الأفلام،
موجودةٌ حقاً،
في عالم آخر،
عالم لن نعبر من خلاله أبداً،
وإن عبرنا فلن نكون نحن أنفسنا،
لكننا لن نعبر من خلاله أبداً،
فما الفائدة من هذه الأسطر،
كأنما سمكة في جوف الحوت،
تسأل عن طعم تراب المريخ،
إذ أنها تدرك أنها ماتت لا محالة.
أما
بعد، يا أبناء شعبنا النهفة، فلقد إختطف ابنكم البار، خالد الناطور، منذ
ما يقرب الخمسين يوماً، في أرض الظلام وقطع الرؤوس والأيدي، في بلد
الإستعباد والذل والإستبداد والهوان، في الصحراء العاقر الجافة. لا دولة له
ترعاه، ولا ناصر له يستأذن الحق في السؤال عن السؤال عنه، لا يسار له يلفظ
إسمه خارج جلسات التنظير الطارئة العاجلة، لا أحد يثور أو ينتفض أو يتململ
أو يتنهد أو يعلق له. يا أبناء شعبنا النهفة، قد آن لنا أن نقوم بما كان
علينا القيام به منذ أمد، أن نحفر قبورنا أو قبورهم، لا الوقت ينتظرنا في
ساعة الرمل ولا طيور السماء ستمتنع عن تبرزها على رؤوسنا، اللهم إن قد
بلغت، بتنا كما الصراصير أو الجرذان.
ومن هنا، فلا بد أن نقول، وبغض النظر عن كل شيء، بما في ذلك أمة بدها حرق، أننا خسرنا معركة الوجود هذه
already!