لم أعد أطمح أو أنتظر أو أتوقع أي نوع من الإصلاح أو التحسّن على أي صعيد أو في أي مجال في هذه البلاد على الإطلاق. وبات كل ما أطالب به أو أريده أو أتمناه هو مجرد إدخال مبدأ العيب في علاقاتنا مع الدولة ومكوناتها التي يصوغها هذا العقد الاجتماعي الساقط. علينا أن ننتبه إلى أن الوصول أو الاقتراب من فكرة احتمال وجود مشروع تيار، قد يسعى يوماً ما، إلى دولة مدنية ديمقراطية في هذه البلاد، قد بات في حكم الخيال العلمي (وذلك بسبب الخمول والتقاعس وفقدان الأمل الشامل الذي ضرب كل مسيسي البلاد، موجة عدمية قوية أزالت كل شعلة أمل أو بريق عمل، إلا اللهم أولئك الساديين الذين ما فتئوا يصفقون للجزار بشار، فلا تعنيهم أحداث البلاد ولا مصائبها، يعنيهم فقط بقاء مرتكب الجرائم ضد الإنسانية على عرشه الجمهوري).
ولذلك، علينا كبشر ما زالت فيهم حلاوة الروح تنتفض، أن نسعى بصدق إلى التعامل بمدأ العيب في هذه البلاد، لا ديمقراطية ولا تشاركية ولا حرية ولا حقوق ولا زفت، كل هذه المفاهيم بعيدة أشد البعد عنا اليوم، ولم تكن يوماً أبعد عنا كما هي الآن. ويأتي هذا الكلام في إطار إيجاد أي مبدأ عام وواسع، يمكّننا من الحديث والعمل من خلاله، لتحسين شروطنا كأفراد مسحوقين في هذه اللحظة. قسماً بكل ما يمكن القسم به، أن تفعيل مبدأ العيب فقط، كافي لتحسين الوضع الحالي الذي نرزح تحته. لم يعد من مجال للحلم في هذه البلاد، ولا داعي للحلم أصلاً، لكن فعلاً عيب. هذه هي الحقيقة المقرفة، أن وضعنا الحالي سيء لدرجة، أن مجرد تفعيل مبدأ "يا عيب الشوم"، ولو رمينا بكل القيم الإنسانية العظيمة والحقوق والحريات البشرية المقدسة، كافي فعلاً لتشكيل ثورة وتغيير جذري في علاقاتنا مع الدولة ومع بعضنا البعض.
أمثلة: من العيب، ومن العيب فقط، أن يترأس المجلس التشريعي في هذه البلاد وزير داخلية سابق كان مسؤولاً عن قمع مظاهرات ٢٤ اذار (واحد). ومن العيب أن يقر المجلس التشريعي قوانين تؤدي إلى إسقاط الإعلام المستقل (ثنين). ومن العيب ضرب أهالي الأسرى (ثلاثة)، ومن العيب ضربهم مراراً (أربعة)، من العيب والمشين بكل المقاييس الممكن وغير الممكن تخيلها تزويج الفتاة القاصر لمغتصبها (خمسة يخي خمسة)، ومن العيب وضع ذلك في إطار الشرف (قد تطول هذه اللائحة)، من العيب التمييز ضد أبناء المرأة الأردنية (سبعة؟)، من العيب بيع الخبز بسعر أغلى للعامل المصري الذي بنى عمان (ثمانية)، وبيعه بسعر مخفّض لسكان دابوق (تسعة). من العيب تسليط الدرك لضرب اليتيم (عشرة)، ومن العيب ضربه في رمضان (حدعش)، والأهم من ذلك، من العيب الشديد والفعل المشين، تهديد أبناء البلد المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال بجنسياتهم (ضروري نعد؟). من العيب أن يتأجج النفس الطائفي في بلد لا طوائف فيه، ومن العيب أن يمثلنا نواب يحضرون جلسات التشريع بمسدساتهم، وهكذا...
ويا ريت، يا ريت، جد يا ريت البلد ماشية على نظام كامل يحكمه الشعور بالعيب أو العار. يا ريت.
على كل حال، وفي هذه الظروف والنكسة والنكبة والردة على كل ما يمكن أن يسمى إصلاحاً، علينا أن نرى بعض الكوميديا في هذا الظلام، كوميدية سوداء طبعاً، لكن هذا اللي أجاك:
١. تعجز القوى المطالبة بمقاطعة دولة إسرائيل عن صياغة موقف واضح يطالب الدولة الأردنية بالتحرك من أجل الأسرى المضربين عن الطعام لليوم ال ٥٤. (وهذه ليست صدفة، إذ أن هكذا مطالبة تضع هذه القوى في موقف من يطالب بالتطبيع، وفي ذلك تناقض. وإن هم غضوا البصر والسمع، فهم يتركون الأسرى وحدهم، لكنهم في ذات هذا الموقف معايير مزدوجة عند المقارنة مع موقفهم من الأسرى الفلسطينيين). مضحك فعلاً هذا الموقف الذي تخلقه الحركات المبنية على برامج من نقطة وحيدة دون نظرة عميقة وشاملة للوضع الراهن. موقف يجعل أكثر من يمتلك وجهة نظر صلبة (لكن هشة) من دولة إسرائيل، يصمت عند الحديث عن الأسرى الأردنيين المضربين عن الطعام في سجونها.
٢. في حين يدعي رئيس الوزراء أن الموقع الإخبارية هي نفسها طالبت بإقرار قانون المطبوعات والمنشورات الحالي، (الذي تسبب حتى الآن بحجب ٣٠٠ موقع إخباري أردني)، فإنه من الصعب التأكد من هذا الإدعاء، إذ أن كل من يخالف هذا الرأي محجوب عن الشبكة أصلاً.
٣. في نفس الوقت الذي تتغنى فيه منابر الدولة الساقطة بقوة الدرك والأجهزة الأمنية، يعتدي الدرك على أهالي الأسرى المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال، ومعظمهم طاعنون في السن. وهذا ليس الإنجاز الأقوى لهذا الجهاز السافل، بل أن إنجازه المهم هو الاعتداء على اعتصام الأيتام في العام المنصرم. عند ربط اعتداء الدرك على الأيتام والكبار في السن، تبدو الأغاني الدركية وأنغام فقء العين مضحكة فعلاً. هناك في هذا العالم، من يتغنى بقوته وقدرته على ضرب اليتيم والعجوز.
٤. في حين بدأ المواطنون الأردنيون التوجه إلى استخدام الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء، ما زالت الدولة تتدارس إنشاء مفاعل نووي. المضحك أن المفاعل النووي سيستهلك كميات مهولة من الماء. ولا يبدو هذا غريباً على الإطلاق في ثاني أفقر دولة بالموارد المائية، إذ أننا نزرع البندورة ونبيعها بأسعار تفضيلية لإسرائيل، التي لا تزرعها إذ تفضل عدم هدر مواردها المائية، التي تخلينا لها عنها في اتفاقية وادي عربة.
٥. نقيب ونقابة الصحفيين تتخذ مواقف ضد حرية الصحافة.
٦. عجز الاخوان المسلمون عن تأليف هتاف أو شعار واحد منذ بدء الربيع العربي. لم تكن النكتة في أن الناشطين في مظاهرات الحسيني لاحظوا منذ بدء الحراك أن الإسلاميين يأتون أسبوعياً بهتافات الناشطين من الأسبوع الماضي، إلا أن الاخوان المسلمين خرجوا هاتفين قبل أيام "حرية من الله، غصب عنك حزب الله". (وهذه ليست صدفة، إن عدو الغناء والرقص والفرح والنكتة والسمر والسهر والفرح والفن، لن يتمكن أبداً من الابداع والخلق)
٧. ومن أهم النكات الموجودة حولنا، حالة الفرح والابتهاج والسعادة والتفاؤل التي تعم كافة الساديين المؤيدين للمجرم والسفاح بشار الأسد، فعلياً، هم سعداء على بقاء وريث عرش المملكة السورية على عرشه، بغض النظر عن تدمير الزراعة السورية في مجملها، وما يزيد عن ١٠% من مباني البلاد، وقتل ما يقرب من ١٠٠،٠٠٠ إنسان، عداك عن المفقودين والمسجونين والمعذبين في أقبية الظلام البعثي. الرائع هنا أن هنالك من يفرح، وهو يفرح صادقاً، لدمار البلاد التي يدعي أنه يخاف عليها.
٨. تعجز الدولة الأردنية عن توفير مال كافي لتسيير المركز المخابراتي المخصص لتزوير وضع حقوق الإنسان في الأردن. وتلجأ إلى محاولات ساذجة لسرقة أو تحويل اتجاه الأموال الأجنبية الموجهة لدعم المراكز الحقوقية المستقلة. واحد بده يكذب ويزور، بس مش عارف، فبروح يسرق، بس مش عارف يسرق، عشان يدفع حق التزوير والكذب اللي مش عارف يسويه.
٩. عجزت معظم قوى اليسار الأردني، عن تبني موقف واحد من الأزمة السورية دون تأييد الدكتاتورية، وعجز المنتدى الاجتماعي الأردني عن إصدار بيان واحد وحيد ضد منتدى دافوس (وهذا الغرض من تشكيل المنتدى)، وعجز مراكسيو المنطقة عن تفسير الثورة السورية ولجأوا إلى تخوينها (تخيلوا الماركسية المناهضة للثورة)، يعجز إسلاميو الأردن عن الوقوف مع حكم الخلع لصالح المرأة (وهو حكم ديني شرعي)، وعجزت الحراكات الأردنية قاطبةً عن إختراق الشارع الأردني (وهو الغرض من وجود حركات غير مؤدلجة يسهل تماهيها مع الشارع)، وهكذا...
١٠. في حين يسوّق النظام الأردني نفسه كنظام منفتح ليبرالي، إلا أنه يحاكم عسكرياً من يخالفه، ويحجب مواقع الإنترنت، كما في إيران تماماً.
١١. بعض مؤيدي بشار، فرحوا بالعرس الديمقراطي في إيران.
١٢. هنالك صفحة على فيسبوك لعشاق السفير السوري بهجت سليمان في الأردن. روح يخي.
١٣. الاعتصام الذي جمع البعث والبلطجية وحركيين أمام السفارة العراقية في عمان.
شخصياً، أنا أرى في معظم ما ذكر مواد هزلية ساخرة، طرائف وكوميدية قوية وسلسة وغير مبالغ بها. مواقف وأحداث تبعث على الضحك. وفيها من العبقرية ما عجزت هوليود عن الاقتراب منه في أحسن أعمالها السينمائية، برنارد شو كان ليسخر قلمه للتدوين بدلاً من التأليف لو أنه كان أردنياً.
المهم، ولست ساخراً في هذا، كل هذا الكلام والسقوط، لم يرم بنا في حضن السخرية والعبث واللعب والتفكيك والهزل. لقد تسبّب هذا كله في رمينا في العدمية وفقدان الأمل والقنوط. وأدعي حقاً، أن كلاً منا، إذا ما ترك مخاوفه وكسله جانباً، لديه الكثير لفعله. إن حصار الذات والأمل والنفس، في منهل العدمية السلبي لن يجعلنا في وضع أسوأ بكثير في الأشهر القادمة فحسب، لكنه سيودي بنا إلى موت ما تبقى من روح الدعابة والهبل والمقاومة. بكل صدق، إن كل نكتة نضال، وكل تعليق ساخر مقاومة، صحيح أن لا أفق ولا أمل ولا احتمال أفق أو أمل يظهر في نهاية المطاف، إلا ان الروح العدمية مكلفة أكثر بكثير من روح السخرية. لدى كل منا الخيار في رؤية الحال على شكل مسرحية رائعة أخّاذة، أو قبر جماعي يحوينا جميعاً، في النهاية، إن الحراك والنشاط والعمل الفاقد للروح الساخرة والتفكيكية لن يأتينا بجديد، بل سيجعلنا نتماهى مع النظام أو الاخوان المسلمين أو السلفيين. إن الطريقة المثلى للتعامل مع الحال تكمن في سؤال "ما هو المضحك في هذا الموقف؟ هل يمكنني اللعب على هذه النقطة؟ كيف؟". لم يعد هناك من تسلية في الموقف العدمي. لم يعد موقفاً مميزاً أو جديداً.
وفي النهاية، فإن الروح العدمية "is so 2012"، جد بحكي.