في دراسةٍ أطلقتها صحيفة واشنطن بوست قبل نحو الأسبوع، اعتبرت الصحيفة الأمريكية التافهة والسطحية والشاذّة، أن الشعب الأردني هو ثاني أكثر شعوب العالم عنصرية. معروف، صحيفة مستشرقة ساقطة. العديد من الأصدقاء حولي اعتبروا التقرير مسيئاً ومبالغاً فيه، كيف تقول الصحيفة هذا الكلام، كيف استطاعت قياس العنصرية؟ يا زلمة الأجانب حمير شو فهمهم.
لكن له له يخي، قام شعبنا العظيم منتفضاً، ليثبت كلام الصحيفة في أول فرصة.
لا داعي لإعادة اجترار أحداث الأسبوع الماضي، لكنها تستوقفنا في بعض لحظاتها من ناحية محددة، هل نحن عنصريون؟ وضد من؟
أولاً، شعبنا "العظيم" و"الطيب" يحمل الكثير من المشاعر العنصرية ضد العراقيين، وعلى الرغم من كون الشعب العراقي شعباً شقيقاً عانى الأمرّين في العقدين الماضيين، وعلى الرغم من التنوير الذي انسابت أشعته من العراق وملأت باقي "الوطن" العربي، منذ ١٥٠ للهجرة حتى العقد الماضي من الزمن، في مؤلفات هادي العلوي وشعر السياب ومظفر وغيرهم، وعلى الرغم أن العراق علّمنا حروفنا ولغتنا عبر التاريخ، ودرّس الآلاف من أبنائنا في القرن الماضي، إلا أننا نضع هذا جانباً بلا تلكؤ كي نظهر عنصريتنا التي ندلي بها جهاراً ونستلذ بها وننتشي. يذهب رجال البعث الصدّامي سابقاً، كي يقتحموا غير مدعوين، فعالية لإحياء ذكرى اكتشاف قبور جماعية رصّ فيها صدام (كدت أقول الأسد)، مئات إن لم يكن آلاف المواطنين العراقيين، ذهب رجال البعث وأبطاله هناك كي يهتفوا بإسم الجلاد والبلطجي، حجاج القرن العشرين، مجرم ليس مثله مجرم، وسفاح وصل صيته أقاصي الأرض لما هو عليه من بطش وقمع، ولما مارسه من إعدامات جماعية تقشعر لها الأبدان.
لكن نحن أقوى من ذلك، نحن نحتفي بهذا الجزار، وهذا حق لمن يتماهى مع أصنامه. لكننا نريد أن نحتفي به أمام الضحية، ورغماً عن أنفها، وما المشكلة إن كان أهالي الضحايا هناك، لا مشكلة على الإطلاق، لنذهب ونهتف لصدام كي يتذكروا جيداً المآسي التي حلت بهم. ما حدث في المركز الثقافي الملكي من إعتداء على أبناء الوطن عادي جداً ومبرر، ولا يعدو كونه مشاجرة من الممكن أن تحدث في أي قهوة أو بار، ليست حادثة عظيمة، واحد راح يزقف لصدام قدام أهالي مقتولين، انقتل وروح. هل كان من المفروض أن يسكت أهالي الضحايا؟ أو أن يرموا رجال صدام بالورود والقبلات؟
لكن لنفكر بالنقطة هذه، لو كان هؤلاء الذين ذهبوا إلى المركز، أبناء الوطن ورجاله، أكثر عدداً وأشد بأساً من الحضور وحرس السفارة، ماذا كانوا سيفعلون؟ ماذا لو حكموا البلد؟ هل سيبقى أحدٌ منا خارج معسكرات الاعتقال أو أقبية التعذيب؟ علينا أن نغيّر طريقة تعاملنا مع حقوق الإنسان، إن من لا يؤمن بحقٍ ما للآخرين، لا يجوز أن يوفره الأخرون له، ببساطة.
ونحن عنصريون فعلياً ضد العراقيين، كم من مجلسٍ في هذه البلاد، يُنعت فيه العراقيون ب-"أهل الشقق والنفاق" يومياً؟ وهذه مسبّة ذليلة ووضيعة، يقتبس فيها المواطن "الطيب" الجزار الحجاج بن يوسف الثقفي. الحجاج الذي يقتبسه المواطن البسيط قتل ما بين مئة ومئة وعشرين ألفاً من العراقيين في عشرين سنة من حكمه (هادي العلوي، من تاريخ التعذيب في الإسلام، صفحة ٩٩). أي قتل الحجاج ما يقرب من ١٤ عراقياً في كل يوم من أيام حكمه، (أي ما يزيد عن قتلى نكازاكي بسبب القنبلة الذرية) ويصر المواطن الأردني على اقتباسه عند وصف شعب كامل. أليست هذه عنصرية؟ هي عنصرية لأن الجملة تحتوي معنى خفياً، وهو أن الديمقراطية والحريات لا تليق بالشعب العراقي، شعب الشقاق والنفاق.
يخي هي الديمقراطية والحرية بتلبقلنا احنا وبس، حرية الطخ في الجامعات وديمقراطية التنكيل بالمواطنين. حرية وديمقراطية تليق بنا نحن المرضى والعنصريون.
ثانياً: النفايات التي يرمينا بها الإعلام المحلي.
محطات وإذاعات البلد، في معظمها، ولا استثني منها هنا سوى عمان نت وراديو البلد، تصب في آذاننا يومياً "أغانٍ وطنية" ليست أغاني وطنية حقاً. إن السمة الغالبة في هذه النفايات هي العداء للآخر والتحريض على العنف والكراهية له، هذه الأغاني غير قادرة في معظمها على تعزيز الشعور "الوطني" (مهما كان معنى ذلك) دون آخر مضاد عدو، وتصوّر الكثير من هذه الأغاني لحظة انقضاضنا على هذا العدو والعنف الذي سنمارسه ضده. هذا هو الخطاب الذي يُبث للمواطنين يومياً على مدار الساعة، ولو كان المواطن الأردني أكثر وعياً من أي مواطن في العالم، فهو سيتأثر بهذا الخطاب لا محالة.
لكن أياً من هذه الأغاني لا يوضح من هو هذا العدو. هو "آخرٌ" ما يريد تهديدنا وإقصاءنا، هي أغانٍ تمثل نموذجاً صالحاً للإستخدام ضد أي آخر وليس آخراً محدداً. فهي صالحة ضد العراقيين أو السوريين أو الناشطين السياسيين أو فقط المختلفين معنا أو عنا. لكن لنفكر قليلاً بهذا الآخر، هل من الممكن أن يكون هذا الآخر الذي سنفقأ عينيه (وفي هذا تمثيل وتعذيب نهى عنه الرسول، لكن لا يهم) هو الجندي الإسرائيلي؟ أو المستعمر الأمريكي الذي ينهب ما ينهب بلا تردد ولا حياء؟ هل من الممكن أن يكون هذا الآخر الذي سنطقطق عظامه من دول العالم الأول؟ لا طبعاً، هو الآخر الضعيف أو الفقير، هو حامل جواز السفر الغزاوي، أو غير الحامل لأي جواز، أو اللاجئ من صراع الطوائف في العراق، أو الهارب من بطش الجزار الأسد. هذا هو الآخر الذي نستقوي عليه ونهدده علانية ليل نهار على مرأى ومسمع منه. وفي نفس الوقت، تملأ أصوات "welcome to jordan" وسط البلد مهللة للرجل الأبيض. نحن عنصريون ضد أنفسنا إذا ما لوّح السائح بدولار.
الأسوأ، أن قناة تلفزيونية، كنورمينا، لم تتردد في الإنقضاض على الفرصة، وضعت القناة مذيعة ترتدي شماغاً وطنياً، صُنع في الصين على الأغلب، وجلست أمام عشرات إن لم يكن مئات الألاف من المواطنين، تحرض على العنف والكراهية، والاقتصاص من الآخر (كان هذه المرة الآخر عراقياً)، والاستداد لما أصاب الكرامة الوطنية من مكروه وجراح. باتت حادثة المركز الثقافي بالنسبة للإعلام والمجتمع الأردني رمزاً للكرامة الوطنية. لم يكن رمز الكرامة الوطنية فساد الكردي أو فساد رؤساء المخابرات أو قضية الكازينو أو أننا نشحد قوت يومنا من الأمريكان والخليج، لا هذه بعيدة عن الكرامة، الكرامة تتلخص بالآخر الضعيف، لأن لا كرامة لنا أمام البترودولار أو حذاء العم سام. لا أحد يطالب بأن نثور لكرامتنا ضد الأمريكان (إذ أنهم أسياد الكوكب والزمان)، لكن من غير المعقول أن يكون علاج الأنا العليا خاصتنا هو المستضعف على الدوام.
لا بد من التوضيح، أن الإعلام الرسمي يتخذ من هذه السياسة منهجاً دائماً، فالصحف الرسمية توظف كتاباً عنصريين علانية وبلا مواربة، كتاب مثل ناهض حتر يحرضون بشكل منهجي ويومي ضد المواطنين من أصل فلسطيني. فهد الفانك يطالب علانية بإغلاق الحدود في وجه من يأتون هرباً من ما بات حرباً أهلية طائفية في سورية، ولا مانع لديه أن يموتوا هناك إذ أنهم لا يأتون بأشوال من الدولارات كما العراقيين (هذا ما كتبه حقاً، لا أبالغ). عبد الهادي راجي المجالي، وهو أيضاً مدير مركز الحسين الثقافي، (لاحظ سياسة الدولة الأردنية في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب) يصف في أحد مقالاته كيف ضرب العامل الوافد بمنفضة سجائر لأنه غيّر قناة التلفاز في المقهى، وفي مقال آخر يضع كل الأقليات في مشهد واحد ويهاجمها جميعاً كما لو كنا نعيش في ألمانيا نازية. الإعلام الرسمي أيضاً عنصري.
ثالثاً: ليس من المعقول، في رب القرن واحد والعشرين، أن تنقص منهجنا مواد للتربية المدنية والأخلاق. ليس من المعقول أننا نحشو أذهان أطفالنا بتربية "وطنية" تعلّمهم عن تفوقنا التلقائي على الآخرين على الرغم من أننا بعيدون كل البعد عن أي نوع من أنواع التفوق على أي أحد. ليس ذلك فحسب، بل أن أساتذة جامعات، كالطائفي وضيق الأفق أمجد قورشا، مسؤولون عن تدريس المئات والألاف من الطلبة سنوياً، يصرحون علانية بمواقف طائفية متخلفة ضد الشيعة. إن الدولة الرومانية، على علّاتها، كانت أكثر مدنية وأقل عنصرية من الدولة الأردنية الآن.
لقد تمّت تربيتنا على العنصرية ورفض الاختلاف، لدرجة أن طلاب في جامعة أردنية، تعرضوا (واحد) للضرب المبرح على أيادي زملائهم لأنهم يرتدون ملابس مختلفة، أو يستمعون لأغانٍ مختلفة عن أغاني الفقء والتنكيل والتعذيب. لأنهم (اثنان) عبدة شياطين! وبعد ذلك تم تسليمهم للأجهزة الأمنية (ثلاثة D:)! وتمت محاكمة الضحايا في محكمة أمن الدولة (ياااي، أربعة، هيييه)! هذا الكلام حقيقي، ليس خيالاً، هكذا نتعامل مع التعليم، هذا هو التعليم في البلاد، المجتمع الأردني يحاكم الضحية ويكافئ الجلاد (لا يمكن أن ننسى أبداً، مهما طال العمر بنا، أننا وفي حياتنا هذه، زوّجنا المغتصبة لمغتصبها بموافقة القانون والمجتمع (خمسة بعين اللي ما يصلّي على النبي)، هذا نحن، هذا بالتحديد نحن).
لقد باتت لدينا القدرة أن نكره عنصرياً فئات اجتماعية غير موجودة حولنا حتى، لدينا القدرة على الهتاف ضد الشيعة أمام السفارة العراقية مثلاً. لقد استمتعت بزجاجة من البيرة وأنا أراقب مع أصدقاء إعتصام السفارة العراقية عن بعد (ليس خوفاً من الإعتصام، لكن خوفاً من زيادة عدد المعتصمين)، هتف المشاركون هتافاتٍ مهينة للشيعة على الرغم من عدم وجود شيعة في البلاد! تم التنكيل بعبدة الشياطين على الرغم من عدم وجودهم! بتنا نستطيع أن نخترع آخراً كي نكرهه، هذا نحن، نعم، نحن ثاني أكثر شعب عنصري في العالم، شكراً لواشنطن بوست التي تفهمنا أكثر منا.
حتى رئيس وزرائنا الفذ التقى لجنة مكافحة التشيّع في الأردن بدون ما يكون في شيعة في البلد! احنا كثير قريبين من القاع.
حتى رئيس وزرائنا الفذ التقى لجنة مكافحة التشيّع في الأردن بدون ما يكون في شيعة في البلد! احنا كثير قريبين من القاع.
شو يعني كرامة المواطن الأردني؟ ألا يصب في هذا التعريف ٢٥ أسيراً أردنياً ما زالوا مضربين عن الطعام في سجون الإحتلال الإسرائيلي لليوم الثاني والعشرين على التوالي؟ هل من المعقول أن الإعلام الرسمي والبديل يتجاهلون هكذا قضية ولا يتركون فرصة التحريض على الأقلية العراقية تفلت منهم. أليس من الأولى صون كرامة الإنسان الأردني بعيداً عن المحاكمات العسكرية؟ تباً لهكذا كرامة.
الحقيقة المرّة هي أنه لا وجود لكرامة المواطن، لا وجود لها في المخافر الأردنية، ولا وجود لها في حالة المعتقلين الأردنيين خارج البلاد، ولا وجود لها لأسرنا، لا وجود لها في طوابير المعونات الاجتماعية، حيث جعلت الدولة لنفسها شعباً يمد يده يستجدي قوته، لا وجود لها في الدرك الذي يكسر عظام المتظاهرين، لا وجود لكرامة المواطن. هنالك فقط كرامة السلطة وبطشها.
شكراً لكم واشنطن بوست، أنتم أفضل أصدقائنا.