قال أحد الأباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، العلّامة بنجامين فرانكلين، أن أولئك الذين يتخلون طوعاً عن حرياتهم الأساسية، للحفاظ على أمنهم المؤقت، لا يستحقون حرياتهم ولا أمنهم وسيخسرونهما على السواء. وهذه في مكانها هنا، وإنني لا أستغرب البتة أن هذه الجملة لم يقلها زعيم عربي كعبد الناصر (إذ كان متفرغاً في معظم الوقت لإدارة مشروعه الشمولي بما في ذلك الإعتقالات السياسية والتعذيب، راجع كتاب "سنة أولى سجن" لمصطفى أمين مثلاً، إضافة إلى المشاريع الأخرى كخسارة الحروب التي لا يقدر على التلويح بخوضها والإيعاز بالإغتيالات السياسية). ولا يثير صدمة أحد أن هذه الجملة لم يقلها أنطوان سعادة أو ميشيل عفلق، إذ أن كلاهما، بسقوطهما الأخلاقي والفكري، لم يجدا من ضرورة في الحرية، إذ أنهما انشغلا بنسخ التفاصيل التنظيمية والأسس الفكرية التي قامت عليها فاشيات أوروبا، وفي مهم وفي أهم. لم يقل هذه الجملة قائد عمالي محلي، أو مناضل فلسطيني (ولا بد أن نتذكر، أنه لو اختفت إسرائيل اليوم، فإن الشعب الفلسطيني سيغرق في حرب أهلية أو فصائلية لا مخرج منها، من أجل السلطة، من أجل المزيد من تقييد الحرية، اللهم حرباً قصيرة كي يقترع الشعب بقوة الذراع والسلاح، أي ظلم وكبت وإضطهاد يريد، حماس ستايل أم فتح، هل يريد الظلم بنكهة إسلامية أم نكهة شبه علمانية؟). لكن على كل حال وصلنا الحديث المسند للأب بنجامين، وها نحن هنا.
لا وجود، ولا إمكانية لوجود، الأردن أو أي بلد آخر، بمعزل عن باقي العالم. وهذا الكوكب التعيس، كما نعلم جميعاً، مليء بالأخطار والمطبات والعهر العالمي. فعلياً، إن الدول الوحيدة المعزولة عن العالم هي دول خارج التاريخ حتماً، ككوريا الشمالية مثلاً. ولا بد لنا هنا أن نتغاضى عن الرأي المتهافت والساقط القائل بأن دولاً ككوريا الشمالية هي مشاريع ناجحة بأي نوع من أنواع المعايير. عدا ذلك، فإن كل دول العالم تمر بأزمات، هنالك دوماً خطر ما خارجي أو ظروف حساسة أو مش وقته أو ما شابه. وهذا الخطاب، خطاب السلطة والمحافظين، يدفع دوماً بإتجاه الحفاظ على كل شيء على ما هو عليه، لأن القادم محفوف بالمخاطر، أو لأن الوقت لم يحن بعد، أو لأن العالم يمر بمرحلة حسّاسة، أو لأن المنطقة مش مستحملة، أو، أو لأن الحقيقة المرّة، هي أن أصحاب الجبروت والمال والجاه، سيصطفون دوماً مع المحافظة على مكتسباتهم. لا يوجد نظام في العالم، مهما كان كيوت ومنيح، مستعد للتقدم أو التغيير أو منح الهبات الحقوقية مجاناً. كل الأنظمة، في كل العالم، هي نتاج ظروف تاريخية سابقة زمنياً، والأنظمة والبنى تميل دوماً بإتجاه الظروف هذه، إذ أنها الظروف التي شكّلت ضرورة نشأتها، لا ظروف مستقبلية تحرمها من سلطتها على الفرد
هذه الظروف، هي تحديداً الظروف التي لا بد لنا من العمل في ظلها لتعزيز قوة الفرد على حساب المؤسسة. هذه هي الظروف، التي لا بد للفرد فيها أن يساهم، إلى جانب باقي الظروف الموضوعية الحساسة، في تقويض المزيد من سلطة السلطة وجبروت النظام، بإتجاه الذهاب إلى شكل جديد لعلاقة السلطة بالفرد، شكل ليبرالي بحت على المستوين الحقوقي والحرياتي. علينا أن نصل، من خلال كل أزمة وإعتقال وحادثة وصراع، إلى مربع جديد، مربع يزيد من تفضيل الحرية الفردية على حساب الدولة والمجتمع. إن العمل في هذا الإتجاه، مهما كانت الظروف، هو الضامن الوحيد لتحصيل مستوى جديد من الحرية الشخصية والحقوق الفردية، لا على صعيد النص القانوني القاصر فقط، لكن على صعيد الثقافة العامة والشعبية، على صعيد العُرف، لا بد لنا من أن نُدخل الحرية والحقوق الفردية كمكوّن أساسي لا في الدستور فحسب، بل في ثقافة الإعلام ومطعم الحمص وسرفيس جبل عمان.
إن الفرد، بحكم تعريف الأخلاق، ليس مجبراً ولا مطالباً بأن يتصرف بشكل أخلاقي مع الأنظمة والمؤسسات والشركات. الأخلاق شكل من الإلتزام الناتج عن ضرورة أو عقد إجتماعي أو طبيعة بشرية، لا يهم، لكنها بالتأكيد صيغة للتعامل مع الفرد الآخر، وليس المؤسسة أو الشركة أو النظام. ولذلك، فإن الإستقواء بالغرب على العقل الأمني الأردني ليست خيانة، أو مثلاً الإنقضاض على الدولة/النظام/المجتمع في الظروف الحساسة من أجل تحسين شروط الفرد هو عبادة بحد ذاتها.
وعلى الصعيد الحقوقي والحرياتي فإن القضايا التي نواجهها الآن في الأردن:
(طبعاً هذا لا يشمل النواحي الإقتصادية، ولهذه نص لاحق مستقل)
٠،٥. وقبل البدء، لا بد من التنويه لضرورة إعادة هيكلة جهاز المخابرات العامة والأجهزة الأمنية جميعاً بما يشمل ذلك تحديد الإختصاصات وإعادة تأهيل الكوادر نحو أسلوب عمل يضع حقوق الإنسان فوق أي إعتبار سياسي أو أمني مهما كانت الظروف. بدون هكذا إعادة هيكلة وتأهيل، لن نتمكن من تحويل البلاد إلى وطن بكل ما تعنيه الكلمة، بدون ذلك لا معنى لأي مسيرة، إذ أن النكسة قادمة دوماً لا محالة. هنالك ضرورة لإعادة هيكلة الدولة الأردنية إذا ما أردنا أن نخلق أي نوع من أنواع التقدم والخلاص.
١. التعذيب، لا زالت الأجهزة الأمنية الأردنية تتعامل مع الفرد وكأنه من ممتلكات النظام. وبالتالي، تتصرف الأجهزة غالباً بطريقة لا تراعي أن الإنسان أو المواطن، هو كائن قابل للكسر والتشويه، بل مجرد شيء ما لا قيمة له. ممارسة التعذيب لا تحصل على المستوى علاقات الأردن العالمية فقط (طبعاً كلنا نعرف التاريخ القريب الجميل، عندما كانت الولايات المتحدة ترسل أولاك الذين اختطفتهم من حول العالم إلى الأردن ومصر وسورية -نعم سورية- كي يتم إنتزاع اعترافاتهم بكل لباقة). تتم ممارسة التعذيب أيضاً على مستوى المخافر، (خلع أذن أحد متظاهري تشرين الماضي)، وعلى مستوى الشارع، (عشرات أفراد الشرطة يعتدون على احدهم بأدوات شواء حادة صلبة السنة الماضية). ناهيك عن قتل موقوف مؤخراً في جهاز مكافحة المخدرات للإشتباه في تعاطيه مادة الحشيش. المهم هنا، هو أن الشرطة لم تجد مانعاً من إستخدام العنف ضد المدنيين العزّل، على العلن وفي الملأ في معظم الأحيان، إن ثقافة حقوق الإنسان لم تصل بعد إلى داخل الأجهزة الأمنية. هم لا يعرفون، هم يجهلون معنى كرامة الإنسان لدرجة القيام بهذا كله في الملأ وأمام الكاميرات. لأنهم ببساطة اعتادوا على أن الفرد، طالما أنه ليس ثرياً أو ذا نفوذ، هو مجرد لا شيء لا مانع لديهم من تأديبه أو تعذيبه أو تقويمه أو تربيته، لأن هذا هو دور الأجهزة الأمنية الذي أصبح معياراً في البلاد. على كل حال، إن كنتم ترغبون بمعرفة المزيد عن فقء عيون المعتقلين أو تكسير عظام المتظاهرين، يمكنكم معرفة آخر انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الدولة من خلال هيومان رايتس ووتش أو امنستي وهذا متوفر باللغة العربية على مواقعهم.
٢. تجنيس أبناء وأزواج الأردنيات، إذ لا يعقل، وبغض النظر عن أي نوع من الظروف أو المخاوف، أن تحرم المرأة والأم الأردنية من ممارسة حقها في بلدها وتوريث جنسيتها مهما كانت النتائج. لا يجوز، في هذا الزمان وبعد كل ما كتب وقيل عبر التاريخ، أن تمارس مؤسسة الدولة، أو أي مؤسسة، أي نوع من أنواع التمييز السلبي ضد المرأة حتى ولو كانت البشرية على حافة الإنقراض التام. إن أصواتاً أردنية اليوم، تنادي بحرمان المرأة الأردنية من حق أساسي وشرط مركزي للمواطنة، وهو الحق في البلاد التي من المفترض أنها للجميع. وقد حان الوقت منذ زمن بعيد، لإسقاط الحجة التي تجابه تجنيس أبناء الأردنيات بالتجنيس غير القانوني لغيرهن. إن حرمان الأردنيات من توريث جنسيتهن لا يرتقي، وهو في إطار النفي المعنوي والإسقاط الجزئي للجنسية عنهن، لأي نوع من أنواع التجنيس غير القانوني (وهو في إطار السرقة، لكن هذا لا يقرب حتى من حرمان التجنيس الذي يقع في وزن النفي من البلاد)، ولا يمكن مجابهة هذا بذاك. إن تمييزاً ضد امرأة واحدة في هذا المجال، هو إغتيال وقتل لمفهومي المساواة والمواطنة. لا يجوز أن يدور هكذا نقاش عن هكذا موضوع، لا يوجد أي داعي لإثبات الحقيقة البشرية القائلة بحق المرأة/الإنسان في العدالة.
٣. الحق المطلق والمقدس في التعبير عن الرأي: وهذا لا بد له أن يشمل الحق والحرية في التعبير عن أي رأي بما في ذلك ما يتعلق بالنظام ورأس النظام والله والدين والرسل ورؤساء المخابرات الحاليين والسابقين واللاحقين ومتهمي الفساد ورجال الدولة الكبار والأجهزة الأمنية كافة وممارساتها جميعاً، إضافةً إلى الحق في التعبير عن الرأي فيما يشمل المال العام والسياسة العامة للدولة مهما كان الأمر أو الوضع حساساً وحتى في حالة الحرب، إضافةً إلى اشتماله على كافة وسائل التعبير بما في ذلك الفردي والجماعي في التظاهر والإعتصام والإعتصام المفتوح. إن الدولة الأردنية لا زالت تفضل تكميم الأفواه بدلاً من ضمان حرية التعبير عن الرأي بشكل مقدس لا يقبل المساومة. إن على الدولة الأردنية ضمان هذا الحق لكل الأفراد على حسابها، أي بما يشمل حماية أصحاب الرأي من الإعتداء والملاحقة والضغوط التي تمارسها أجهزة الدولة أو المجتمع على السواء.
٤. الحقوق الفردية أو الفردانية: ويشمل ذلك كل ما يفعله الفرد طالما أنه لا يؤذي الآخرين ولا يحد من حرياتهم، وفي أعلى القائمة، حقوق المثليين جنسياً وحق المرأة في الإجهاض (كبديل عن تزويج القاصر لمغتصبها كما يحدث اليوم في الأردن)، والحق المضمون والمقدس في خوض نمط حياة خاص مهما كان هذا النمط. على الدولة الأردنية أن تسخّر جزءًا من مصاريفها لضمان حقوق الأفراد ضد المجاميع (ولعلها تود تقليل نفقات التنصت على هواتف الأردنيين كي تأتي بالمال) مهما كانت طبيعة نمط حياتهم ومهما تعارض هذا النمط مع كل كتب الميثولوجيا التي يود البعض احترامها.
٥. الحق الجماعي في العمل والتنظيم والحشد والتبليغ والإعلام لأي هدف أو غاية سلمية كانت، بما يشمل ذلك تغيير الدستور أو النظام أو العقد الإجتماعي الساري حالياً. إذ لا يعقل أن يكون العقد الإجتماعي الحالي غير قابلاً للنقد أو النقض بالرغم من عدم مشاركة أي انسان حي في التصويت عليه أو الموافقة على مضمونه. لا يعقل أن يظل الإنسان الأردني، إلى ما لا نهاية، أسيراً لإتفاق أو عقد لم يعد هناك من يتذكره أو لم يعد على قيد الحياة أياً ممن وقعه. ولطالما استخدمت الدولة الأردنية تهماً تافهة وساقطة ومثيرة للشفقة في هذا المضمار، إن "محاولة تغيير الدستور" هي من ضمن هذه التهم. إن أي مواطن غربي، على ما في الغرب من علات، قد ينفجر ضاحكاً إذا ما عرف أن محاولة تغيير الدستور قد تكون تهمة في بلدٍ ما. ولربما، ربما، يتخذ قراراً المرة القادمة بالتصويت لأولئك السياسيين الذين يتعهدون بربط مساعدات الغرب لنا بالإصلاح السياسي.
هنالك ضرورة فائقة، الآن وليس في أي وقت مضى أو قادم، للعمل على كف يد الدولة (وأجهزتها) والمجتمع (ومجاميعه) عن الحقوق الفردية. ولربما تكون ممارسة هذه الحقوق بغض النظر عن الوضع القانوني الحالي أهم ما يمكن فعله لترسيخ قواعد وحدود اللعبة. إن النصوص القانونية لم ولن تكن يوماً ضامناً للحقوق والحريات الفردية، على العكس، فلطالما كسرتها الأنظمة الإستبدادية أو المجتمعات المتخلفة/المتأخرة على مر العصور. لا بد لنا من القيام، حتى لو لم نرغب ذلك، بكل ما يحق لنا، ينبغي علينا ممارسة هذه الحريات، حتى لو لم نرغب بها أو لا نشعر بضرورتها.
إن لم يكن التمرد والحرية الجنّة بعينها، فهما الطريق إليها.
No comments:
Post a Comment