لأن وجدان البعض، أولائك من تبقى فيهم من الروح شيئاً، يميل دوماً إلى اللا سلطوية، فإن الكتابة أو التدوين عن هذا الموضوع عبادة. خاصةً في التكتيكات أو الأفكار الممكن توظيفها في هدم السلطة من داخلها أو قربها. ونقول هنا اللا سلطوية بدلاً من أناركية، إذ أن اللا سلطوية تعرف ذاتها بالنفي، نفي السلطة، بدلاً من التأكيد. وبالتالي تظل اللا سلطوية في حكم النزعة والميلان والتأرجح، وهذا أصح دوماً من الثابت والراسخ والجامد. وبالرغم من أن إصطلاح الإناركية يأتي من اللاتيني في نفس الباب، أي نفي السلطة، إلى أن المصطلح إكتسب، محلياً وفي العالم، ما يجعله بثبات الحجر الأصم. ولأن كلمة أناركي استوردت كما هي في بعض الحالات، فقد باتت مفهوماً لا يعتمد على النفي بشكل مطلق، ويبقى بذلك مصطلح اللا السلطوية أبلغ وأقرب للقصد.
على كل، وبما أنني لا أؤمن بالعنف دوماً، بل في أحيانٍ قليلة استثنائية لا أعرفها، ولأنه من الأفضل أن يترك العنف لأهله، أهل السلطة والمال والجبروت، سلاطين المنكوبة والقصور، كان لا بد أن يكتب شيءٌ ما عن التكتيك في مجابهة المؤسسة. وكل المؤسسات ساقطة وعنيفة، وكلها تمارس ما تمارس من عهرٍ وسفالةٍ وعزلٍ وإقصاء، ومن ضمن هذه المؤسسات، للتعديد وليس العد، العائلة ودور العبادة والجريدة والشرطة والوزارات والشركات والأحزاب ومجالس الرجال (وتستثنى جلسات النساء التي تدار بشكل مختلف يظهر بوضوح تفوق المجتمع الأنثوي على الذكوري). ورأس هذه المؤسسات وأبوها الحرفي والروحي هي الدولة والنظام. وعند مناجاة التاريخ أدلة كثر، على أن الدول والأنظمة كانت دوماً عدو الإنسان الأول والأخير.
لا بد أن نذكر، قبل البدء بالسرد والحديث، أن الدولة مجرمة بحق الناس دوماً وأبداً، فهي تحاكم تبعاً لقوانين صنعها رجال يتربحون منها، ومن ثم تنزل عقوبة تخترعها وتطورها عبر السنين، وهي المؤسسة الوحيدة على وجه الأرض التي تمارس التعذيب والسجن والإكراه على العمل، وتسرق من مال الناس وقوتهم كي تضطهدهم وتعنفهم وتضربهم بالسر والعلن، والدولة تنفي الفرد خارجها إذا صاح بها كفى، وتمارس الدولة النفي داخلياً وخارجياً، فإما أن تجرّد الفرد من قوته ومصدر طعامه، أو تلاحقه كلابها في الليل، أو تقصيه خارج أرضه وبلاده. والدولة بطبيعتها مسمولة العينين لا ترى ما يحل بالقوم من فاجعة ومثلة، وآذانها مصلومة لا تسمع الناس وإن وقفوا آلافاً جهاراً نهاراً يلعنونها في وجهها. وإن إنتفض الناس ضد حلكة ليلها قتلتهم وسلطت عليهم مجرمين يترزقون من مالها المسروق. وبالتالي فإن معاداة الدولة والنظام تقع في صلب الحرية والكرامة، لا تؤجل ولا تترك.
إن من ضمن ما يستطيع الفرد فعله ضد ظلم المؤسسة المنهجي، هو الكسر والسلب والتخريب والمقاطعة.
الكسر، وهنا نعني كسر الإرادة والشوكة والمنطق. وذلك يكون بإظهار قصور منطق الدولة وتضاربه. إن منطق الدولة والنظام لا يسلم أبداً، إذ هي دوماً تلتف على نفسها، ولا تملك الصدق ولا النزاهة، فالدولة تحابي أصحاب المال والقوة على حساب المساكين. إن إظهار سقوط الدولة لمن لا يراه في مقام الدعوة. أيضاً، إن خلق ظروف تؤدي إلى إرتباك الدولة والنظام مهم جداً، والأدق من ذلك، أن خلق ظروف أو وضع يؤدي إلى الإرتباك وقلب هرم السلطة رأساً على عقب أساسي في مساعدة الناس والذات على تذوق طعم الحرية. والمظاهرات والإعتصامات مثال على ذلك في حال شكّلت ظرفاً كان فيه الناس أقوى من أجهزة الدولة. أيضاً، إن خلق حالة تتحدى المنطق قد يوفي بالغرض أحياناً. كظهور مئة من الناس، أو حتى عشرات، بشكل منسق، بحيث يرتدون جميعاً زياً غريباً، أو يفعلون عملاً غير معتاداً. وهذه دوماً تضع الشرطة (رجال المؤسسة في الشارع) في حالة من الذهول أو الإرتباك. (تخيل رد فعل الشرطة على ظهور عشرات الشباب في مكان ضيق -كي يظهروا أكثر عدداً بحكم ضيق المكان- وقد تنكروا جميعاً كمهرجين يحملون البالونات). إن حالة الإرتباك ومحاولة وقف هكذا عمل من قبل رجال السلطان ما هي إلا دليل على خوف السلطة الدائم من الإختلاف والتغير والعبث والحرية، إذ أن السلطة تخاف من الطائر إذا سعد. أيضاً، إن خلق مثل هذه الحالات هو فرصة معظمنا الوحيدة لتذوق حالة تشبه حالة الحرية.
ومن ضمن الكسر أيضاً كسر القانون والعادات والتقاليد والمألوف. طبعاً لا مضر من التوضيح، أن كل ذلك حلال بشرط عدم أذية الآخرين بأي شكل. إن التدريب المستمر، والممارسة الفاعلة في كسر القانون والعادات تقع في صلب التمرين على الحرية، وهي أيضاً إمتحانٌ للراسخ والثابت والجامد وتحجيمٌ له وتأكيدٌ على أن الناس ليست بحاجة للأنظمة، فمعظم الناس لن تسرق ولن تقتل حتى في غياب القانون. بل العكس، الأنظمة والقوانين بحاجة للناس، والأنظمة والدول تسرق وتقتل في حضور القانون والعادات. إن كل كسر وصدعٍ في جدران التقاليد والعادات والقانون والأنظمة ينال ثواب الحرية ولو بمقدار.
السلب، وهنا نعني سلب أدوات النظام، والأصح هو القول باسترجاع الأدوات، إلا أن السلب يفترض الدهاء والسرية، بعكس الإسترجاع. وفي هذا الباب يأتي الإمتناع عن الشهادة في محاكم النظام، ومحاولة تسيير الشؤون بين الناس والأخوة والجيران بعيداً عن الأنظمة الفاسدة العفنة. يأتي في هذا الباب أيضاً تنسيق وترتيب شؤون الناس بدون العودة إلى الشرطة والمحكمة والوالي والشيخ والقس، والتصالح والتعاون بين الناس بدلاً من اللجوء إلى أدوات النظام يساعد في إظهار تفاهتها وعقمها وسهولة تسيير الأمور دونها. في السلب أيضاً تأتي المدونات والموقع الإلكترونية المستقلة بدلاً من الجريدة، ومحطات التلفاز المستقلة والأجنبية بدلاً من قناة النظام، وهكذا..
التخريب، وهو تخريب النظام نفسه أو تخريب أدواته. ويشمل ذلك الخطأ المتعمد في الوظيفة، والإمتناع عن إرشاد الشرطي إلى مخبأ الهارب، ويأتي فيها إسقاط الخدعة الكبرى، وهي أن الفرد مجبرٌ على الأخلاق عند تعامله مع المؤسسة أو الشركة أو النظام. التخريب أيضاً يجوز على شبكة المعلومات. ويجوز أيضاً في ضرب أعضاء جسم الدولة ببعضها البعض عند الإمكان، يجوز التخريب طالما أنه لا يؤذي الناس، ويؤذي المؤسسة الحاكمة فقط.
المقاطعة، وهي تفادي التعامل والتواصل مع الدولة متى ما أمكن ذلك. ويشمل هذا مقاطعة الإنتخابات وخطاب الدولة ومؤسساتها ورجال السلاطين. ويشمل ذلك، تبعاً لهادي العلوي، عن أحد أقطاب الصوفية، عدم النظر إلى القصور كي لا يساهم في بنائها في عقول الناس، والنظر فقط في حالة الحاجة إلى تحديد المكان لغرض ما. وهكذا..
No comments:
Post a Comment